قم بمشاركة المقال
شهدت التسويات المالية الناشئة عن المعاملات التجارية والاستثمارية على مستوى العالم نوعا من الاستقرار بعد الحرب العالمية الثانية، ليتربع الدولار على عرش عدة عملات دولية أخرى، وحظي بالثقة الأعظم من دول العالم.
وعلى الرغم من تخلي أميركا عن ربط العملة بالذهب عام 1971، فإنها استطاعت أن تورط العالم أجمع في تحمل مخاطر التعامل والاحتفاظ بالدولار الذي يستحوذ على 60% من استثمارات الاحتياطيات من النقد الأجنبي للدول.وإن كان الأمر يشهد تطورات أخرى منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، إذ طالبت دول أوروبية والصين بالبحث عن عملة أخرى للتسويات المالية الدولية، وهو الأمر الذي رفضته أميركا في ذلك الحين، ولا زالت تصر على موقفها بفرض هيمنة عملتها على النظام المالي والنقدي.
ما مظاهر الحضور الصيني اقتصاديا؟
عرف المشهد الاقتصادي العالمي -منذ مطلع الألفية الثالثة- بروز الدور الاقتصادي للصين، حيث أصبحت بكين الآن القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية.ووفق أرقام قاعدة البنك الدولي لعام 2021، فقد بلغ الناتج المحلي الصيني 17.7 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 18.4% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في العام نفسه، والبالغ 96.1 تريليون دولار.
وثمة تقدم اقتصادي يحسب للصين على الصعيد العالمي؛ مثل التجارة الدولية، وتقديم القروض للدول النامية والأقل نموا، كما تنافس أميركا وأوروبا في ما يتعلق بإنتاج التكنولوجيا، وهي واحدة من القضايا المهمة والحاسمة في إطار الصراع الصيني مع أميركا على وجه التحديد، وإن كتب للصين حسم هذه المعركة فستتمكن من قيادة العالم اقتصاديا.
فقد بلغت الصادرات السلعية الصينية 3.36 تريليونات دولار في عام 2021، كما بلغت وارداتها السلعية في العام نفسه 2.68 تريليون دولار، وهو ما يعني أن الميزان التجاري للصين مع العالم يسفر عن فائض يقدر بـ 676 مليار دولار.
وفي عام 2016، نجحت الصين -عبر مفاوضات مع صندوق النقد الدولي- في أن تجعل عملتها المحلية اليوان واحدة من العملات الدولية القابلة لتكون أحد مكونات الاحتياطيات من النقد الأجنبي للدول، وهي خطوة مهدت للعملة الصينية لتضع قدمها على سلم الحضور في النظام النقدي والمالي العالمي.ما واقع اليوان كعملة مقاصة؟
المقصود بأن يكون اليوان عملة مقاصة هو أن تستطيع الدول الأخرى صاحبة التعاملات التجارية والمالية مع الصين الدفع بالعملة الصينية؛ وبالتالي يشجع هذا على أن تستحوذ البنوك المركزية للدول على اليوان كجزء من احتياطياتها النقدية.
وسعت الصين منذ أن اعتمدت عملتها من قبل صندوق النقد الدولي كأحد العملات الصالحة ضمن مكونات الاحتياطيات الدولية إلى إنشاء مراكز مقاصة في مناطق عدة، من بينها قطر والإمارات في منطقة الخليج، وهناك مراكز مقاصة أخرى في دول آسيوية وأوروبية، وتعهدت الصين بأن بنكها المركزي سيوفر للدول الراغبة في الاحتفاظ باليوان ما يلزمها منه
وحسب أحدث الأرقام عن أداء اليوان كعملة ممثلة في الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فإنها تأتي في المرتبة الرابعة على مستوى العالم، بعد الدولار واليورو والين الياباني، بنسبة تصل إلى 2.8% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي بالبنوك المركزية للدول المختلفة، وهي نسبة أفضل مما كانت عليه عام 2016 عند 1.08%.
ويتوقع خلال السنوات القادمة أن تسعى الصين لتمكين عملتها في السوق الدولية، كعملة تسويات مالية وتجارية، كما تتخذ الصين خطوات في إطار إصدار السندات الدولية المقومة باليوان.وتقدر الديون الثنائية المقدمة من الصين إلى الدول النامية والأقل نموا بقرابة تريليون دولار، وهو رقم تقديري، وليس له إحصاء رسمي من الصين. وتعد بكين منافسا للمؤسسات المالية الدولية في إقراض الدول النامية والأقل نموا.
ما الذي تستفيده الصين من مقاصة اليوان؟
علينا أن نقرأ الخطوة الصينية بجعل اليوان عملة مقاصة في تعاملاتها المالية والتجارية مع الدول الأخرى في ضوء أمرين: الأول أنها ليست العملة الأولى التي تقدم على هذه الخطوة على الصعيد العالمي بعد الدولار، بل هناك عملات أخرى مثل اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والدولار الأسترالي والدولار الكندي وغيرها.والأمر الآخر أن تتم قراءة هذه الخطوة في ضوء الصراع بين الصين وأميركا على قيادة العالم اقتصاديا، وهو صراع لا يخفى على أحد، إلا أن اليوان أمامه وقت طويل وتحديات ليست سهلة لمنافسة الدولار على مستوى العالم.
وبلا شك أن اعتماد خطوة اليوان كعملة مقاصة سيخفف جزئيًا على الصين والمتعاملين معها تحمل فاتورة التبعية المالية والنقدية للسياسة النقدية الأميركية، لكن ذلك سيفرض على الصين المزيد من التحديات لتلبية احتياجات البلدان الراغبة في الدفع بعملتها المحلية.